اللهب المقدس

مرحبا بك معنا حللت أهلا وسهلا

انضم إلى المنتدى ، فالأمر سريع وسهل

اللهب المقدس

مرحبا بك معنا حللت أهلا وسهلا

اللهب المقدس

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
اللهب المقدس

تربوي أدبي ثقافي


    من وحي الفجر

    بوجدع عبد العزيز
    بوجدع عبد العزيز


    عدد المساهمات : 89
    تاريخ التسجيل : 20/12/2010

    من وحي الفجر Empty من وحي الفجر

    مُساهمة  بوجدع عبد العزيز السبت يوليو 16, 2011 2:31 am

    من وحي الفجر


    ـ رحم الله جدّي ، وجزاه عنّي كلّ خير .. كم كان شديد الحرص على تعليمي الصّلاة ، وعلى إقامتها ..، وكم كان كثير العناية بتقويم أخلاقي وسلوكي ..!.
    كان أبا لي بعد رحيل والدي عن دنيانا في حادث مرور مؤلم .
    كانت أحاديث جدّي ممتعة ..خاصّة عندما يفتح له محدّثه آفاق الحديث ، ويلامس مشاعره الرّقيقة الّتي تعكسهاهالة وجهه الوضيئة ، وصوته الدّافئ ، وعيناه الوديعتان الّلتان تلمحان الجليس في استحياء ، فتشعرانه بأنّه مبجّل مقدّر لديه .. .
    كان كثير الالتفاتفي حديثه إلى الماضي بما فيه من بساطة وطيب عيش ، وحميمية معشر ، وتعاون على الخير ، ونكران للشّرّ ، وتراحم بين النّاس !! .
    كانت عيناه تبتلاّن بدمعهما الصّافي حينما يستغرقه الحديث عن ذلك الماضي الّذي زهد في أهل هذا الزّمان كما زهدوا فيه ، ، ولّى ذلك الماضي يسحب ذيله .. ربّما كانت ذكرى أبي الفقيد تمتزج لدى جدّي بذكرى ذلك الماضي المولّي ، فتزيد من تدفّق مشاعره ودموعه معا .. لك الله يا جدّي الّذي يتعذّب في صمت ! .
    لا أزال أحسّ كفّ جدّي الدّافئة وهي تمرّ على صفحة خدّي في الصّباحات المنعشة لتوقظني لأداء صلاة الفجر وأنا لم أجاوز عقدي الأوّل .. ، كنت استسلم للنّوم أحيانا ، وأنفض ثقله أحيانا أخرى ، فأتوضّأ وأصلّي مع جدّي الفجر ، واستمتع بصوته الهادئ المملوء رقّة وحنانا وهو يقرأ آيات الذّكر الحكيم .. كان يقرأها مستشعرا معانيها الجليلة وكأنّها أُنزلت عليه ، أو كأنّه ترك دنيا النّاس وراء ظهره ، وابتغى إلى ذي العرش سبيلا ! .
    كان يدعوني أحيانا لقراءة ما تيسّر من آي القرآن الكريم على مسمعه ، فهو لا يحسن القراءة .. إنّه يتأسّف على ذلك تأسّفا شديدا، فأسمعه وهو يتنهّد تنهّدا عميقا بعمق أغواره الّتي يعلم الله ما تكتنز من أسرار .
    إنّ ظروف الاستعمار ، ويتمه المبكّر ألزماه بأن يسعى في سبيل إعالة أمّه وإخوته الصّغار الثّلاثة وهو في باكر عمره .. إنّه الآن يحمد الله إذ أعانه على التّكفّل بإخوته وتعويضهم عناية الأب الفقيد ، وحنان الأمّ الّتي لم تلبث إلاّ أعواما قليلة بعد وفاة زوجها لتلحق به في الرّفيق الأعلى ، بعدما فتك بها مرض لم يُعرف له سرّ حينها .
    كنت إذا توقّفت عن قراءة القرآن بين يدي جدّي في تلك الصّباحات الجميلة ، يدعوني للخروج إلى الحديقة لتفقّد أشجارها وخمّ دجاجها حينما لا يكون الجوّ باردا .. كنّا نهذّب الأشجار ، أو ننقّي محيط جذوعها من الحشائش الضّارّة ، أو نسقيها .. ، كان جدّي يقول لي بأنّ سقي الأشجار في مثل تلك الأوقات يفيدها كثيرا ، وكنّا في مواسم النّضج نقطف ثمار الحديقة الّلذيذة .. لقد أدركت بنفسي أنّ لذّة الثّمار الّتي تُقطف حديثا لا تعدلها لذّة إلاّ لذّة ثمار الجنّة ، غير أنّ أطيب وألذّ ما كنّا نقطفه في هذه الصّباحات السّاحرة هو ذلك النّسيم الّذي تشبه رقّته رقّة جدّي !.
    كنت أشعر بأنّ غاية جدّي من دعوتي للخروج إلى الحديقة هي إمتاع عقلي وروحي بسحر الصّبح الّذي يسوق إلينا وفد الجمال البديع في مطلع كلّ يوم! .
    أذكر أنّه في أحد أعوام طفولتي نظّمت إحدى الجمعيات الخيريّة رحلة سياحية لفائدة الأيتام إلى مدينة ساحليّة .. التمست من جدّي أن يسمح لي بالذّهاب في هذه الرّحلة .. كان عطفه عليّ يمنعه من التّردّد في تلبية طلباتي المعقولة .. وافق على ذهابي مشترطا عليّ شرطا وحيدا وهو الالتزام بأداء صلاتي في وقتها!.
    وافقت على ذلك ..فليس في الشّرط حرج ومشقّة بالنّسبة لي .. فقد علّمني جدّي أداء الصّلاة في وقتها ، ورسخ هذا السّلوك الحميد في طبعي .
    حينما عدت من الرّحلة ضمّني جدّي إلى صدره ضمّا طويلا ..أحسست معه بنبض قلبه وهو يربّت على صدري .. كما كانت كفّه الّلطيفة تربّت على صفحة خدّي حينما يوقظني لأداء صلاة الفجر .. أجلسني إلى جانبه وراح يمسح على رأسي بعدما كان قد أجرى ضمّه الرّفيق دموعي في المقلتين .. ثمّ سألني عمّا إذا كنّا نؤدّي الصّلاة في وقتها ..حاولت أن أحرّك لساني لينطق بالجواب الصّريح ..لا استطيع أن أكذب على جدّي لأنّه ربّاني على قول الصّدق ..كان كثيرا ما يحثّني على الإخلاص في القول والعمل .. تشجّعت ثمّ أخبرت جدّي بأنّ يوم المعسكر في هذه الرّحلة السّياحية لا يبدأ إلاّ بعدما تطلع الشّمس ..لم يسمح لي جدّي بأن أكمل الحديث عن الأنشطة اليوميّة المتنوّعة الّتي قمنا بها في المعسكر .. قاطعني غاضبا مقطّب الجبين ..لا أذكر بأنّني رأيته على تلك الحالة من الغضب والتّقطيب قبل ذلك اليوم ..قال في لهجة صارمة حادّة غير معهودة في صوته الدّافئ الهادئ :
    ـ لن أسلمك إلى أيدي هؤلاء النّاس الّذين يبدأون يومهم بتناول الفطور بعد الاستسلام للنّوم والتّفريط في صلاة الفجر ..لا خير في أناس يكون أوّل عمل يقومون به هو الأكل ..أيّ خير يسوقه إلينا يوم نفرّط في صلاة فجره ، ونغفل عن الاستمتاع بجمال صبحه..إنّ الإنسان الّذي يريده الإسلام الّذي يشبع روحه وعقله بنعم الجمال والفضيلة ، ويسعى إلى إرضاء ربّه أوّلا قبل أن يسعى إلى إشباع بطنه أو باقي غرائزه .. فإذا كان أوّل ما أشبعه الإنسان هو روحه وعقله قضى يومه مقودا بهما ، وإذا كان أوّل ما أشبعه هو بطنه قضى يومه مقودا بتلهّفها ونهمها ..فاجعل قائد يومك دائما هو العقل والرّوح لا غيرهما ليرفعاك بأجنحتهما النّورانيّة إلى الأعلى ، ولا تكن عبد الغريزة فتستعبدك ، و تقودك إلى الدّركات السّفلى !!
    .

      الوقت/التاريخ الآن هو الخميس أبريل 18, 2024 11:05 pm