البحر يلفظ درره ..!
.. و يلفظني البحر ... مجموعة قصصية للقاصة فاطمة قيدوش ، صدرت مِؤخرا عن دار ابن الشاطئ للنشر والتوزيع .. فهنيئا للقاصة صدور مجموعتها وهنيئا للقارئ الذي سيطلع على هذه الدرة ..!
جاءت المجموعة في أربع عشرة قصة تنوعت مواضيعها لكنها حافظت على أسلوب قصصي يجعلك تتنقل بينها بسلاسة ، تتلهف لقراءة القصة القادمة وأنت تنتهي في اللحظة ذاتها من القصة التي بين يديك ..
“ لم يكن شهر أيلول لتلك السنة غير ورقة - يا نصيب – رابحة دفعها موج البحر إليه ، فمرت غجرية عنيفة أمامه داست عمدا بقدميها الحافيتين لوحاته الرملية التي مافتئ يشكلها كلما انسحب الموج تاركا المكان نديا ورطبا وجاهزا للبوح ."
هكذا تقدم القاصة لقصصها الممتعة بلغة شاعرية جميلة ..ثم تأخذك إلى أعماق النفس وتخاطب الوجدان لتخرج بعدها إلى السطح وتعرض المرئي والملموس بطريقة شيقة..
جاءت القصص عميقة في معظمها تشجع القارئ على إعمال فكره وتدفعه أن يكون بدوره مبدعا وهو يهتدي للفكرة التي تريدها الكاتبة ..واختارت أبطالها من عمق المجتمع ومن طليعته أحيانا لكنها في كل مرة كانت تعرض أبطالها بطريقة خاصة جدا إنها طريقة فاطمة قيدوش ..
لما كانت بطلة القصة أنثى جعلتها تتقلب بين الآهة والأمل بين الانكسار والانتصار بين الأنثى والأنثى ..!
تلك الطفلة التي كبرت وهي تمقت أن ترى في حبيب الطفولة البريء الدافئ الراحتين صورة أبيها الذي يضرب أمها ثم يقبلها ..وتستكين وتسلم له النفس راضية وتجيب الطفلة
"- أمي لماذا يضربك ؟
- لأنه يحبني ."
وتكثر الأم الكلام ..وتكثر النسوة الكلام وينمو لديها كره شديد لمثل هذه التصرفات ولا تريده أن يصدر مثله منها كما لا تريد أن يكون حبيبها مثل أبيها .. وتسأله وتلحُّ في السؤال هل يدرك هذا الحبيب الدافئ الراحتين ما تريد أن يكون ..لكنها في الأخير تكتشفه وكأنها تكتشف كل الرجال فتجده من بعيد يشبه والدها تماما .. كما جاء في قصة " خلف حدود السؤال" .
ونجد البطلة كذلك في قصة " خارج اللحظة "ثائرة أمام رغبة الأب الذي يريد أن يجردها من أنوثتها ، فهو يريد ذكرا لكنها أتت غير مرغوب فيها فعليها أن تكون الذكر إذن فراح يتفنن في أذيتها بداية من الاسم الذي جعله من غير علامة تأنيث " إحسان " ..ولزم قص شعرها وكسوتها بألبسة ذكورية .. و .. وقد أدركت " كان عمري بضع سنين حين مارست أنوثتي ببوح نادر ، يوم عيد رقصت هنا ..كان ذلك خفية عنك " ..وها هي تقرر الخروج من هذا الصمت وتعلن التمرد وتنطلق أنثى كما شيء لها بداية من عيد الميلاد هذا .." سحبت – الطرطة – غرست فيها شمعة واحدة ..وبدأت ترتب من جديد صندوقا من ورق ..
بينما نجدها في قصة " ليلة عيد " تعطي مثالا في التضحية بالنفس من أجل عائلتها وتحرص على أن تشمل إخوتها بعطف وحنان لا يمكن أن يوفره غير أنثى زرع فيها البارئ كل منابع العطاء فأجرتها رقراقة بلا تردد ليبلغ الكل بر الأمان وهاهي اليوم في ليلة العيد هذه تنتظر عودتهم لكنهم انشغلوا بأمورهم فتسكن للذكرى وتناجي الماضي وترتقب إذ " جلست تقلب "ألبوم الصور " بحنو نادر وكأنها تلتقط أجسادا صغيرة وتحميها من السقوط .."
ونجد البطلة في " ممر البداية " طفلة تهرب من التهم ..تحاول أن تكون ككل أترابها غير أن مجيئها إلى هذا الوجود الذي كان مختلفا قليلا عن مجيء بقية الزملاء جعلها تبقى أبدا متهمة ومفجوعة .." رفضتني القرية الصغيرة المترامية الدفء والخصوبة والنماء ولم تكن سخاءً علي بقدر ما كانت تزج بي إلى دائرة الاتهام .." لكنها تكابد ..تجاهد وتنتصر ويشار لها بالبنان وهي الآن تمر بين الغرف ويصلها الهمس
- جمانة جاءت .
- جمانة ذهبت ..
وتلبس البطلة في قصتي "حيزية ذاكرة وطن" و" امرأة من زمن مضى" لباس المحارب الشجاع وتزودها بحنان الأنثى وتنطلق صوب هدف واضح المعالم بيِّن الغايات كانت "حيزية " و "امَّا اليامنة" من بين من وضّحوا خطوطه أكثر وتحقق النصر ..
لقد كان في باقي القصص البطل رجلا وكأنها مشت حسب التقسيم الشرعي وللرجل مثل حظ الأنثيين ..! ومشت معه معتركات الحياة بلغة لا تقل شاعرية عنها لما كانت البطلة أنثى ..
فكانت البداية مع الشاعر الرقيق الذي كان يبني أعشاشا للحلم وأخرى للحب ..حب "نسرين " .. والذي في لحظة ما وجد نفسه لا يقف على حقيقة بيّنة فراح يستنطق أكمام زهرة ربيع وهو يفرقها في الهواء بين خيارين :
- تحبني ..
- لا تحبني..
وتأتي الإجابة قاسية جدا ..
"خرجت نسرين وبيدها كيس ،و مرت ثانية بجانبه ..وظل هو مكانه حين مرت وحين عاودت المرور ظل يتمسح في عطرها بنهم والسعال يزيد حدة :
ـ نسرين ..!
وينتهي العاشق ويولد حرفه حين " تهالك وتهالكت في السقوط أشياؤه.. وديوان شعر ؛ ـ نسرين قصيدة لم تقرأ ـ
وتغوص فاطمة بأبطالها في صراع دائم مع حياة قلَّ ما تنصف المنصفين فبطلها الثاني يحاول الفرار بل يجبر على الفرار من أمكنة ظلت تحاصره ، تخنق فيه الابتسامة وتجهز بين ضلوعه بكل قسوة على كل حلم جميل .." لم تعد مدينتي تحبني وتطربني بنشيد حفظته رغبة في الصف الأول ولم تعد تمدني بمقاطع قدسية : ـ قسما بالنازلات الماحقات ـ يصبح الهروب ملاذه الوحيد ، لكنه يُصدم أكثر وهو المكلوم إذ ترفع في وجهه يد المنع أبد ، إشارة وقوف لا يمكنه تجاوزها ..وتوظف هنا بشــكل جميــــل قصيدة أحمد فؤاد نجم الممنوعات :
ممنوع من الغنا
ممنوع من الكلام
......
ويمنع ..ويد ترفع في وجهه من جديد
" ـ أنت ممنوع من السفر " .
جاء ذلك في قصة اختارت لها عنوانا مثيرا للانتباه " بين المرافئ والوجع " .
ومرة أخرى يجد بطلها في القصة التي وسمت بها مجموعتها ـ ويلفظني البحر ـ نفسه يُساق وقد أصبح همُّ الكل العبور إلى الضفة الأخرى وبحظ عظيم يلفظه البحر وينجوا ليكابد هناك ..ويكبو..ويكبو مرة أخرى ..ويقوم .." فعضلاته المفتولة وبنيته القوية كانتا جسور عبوره إلى بساتين البرتقال شتاءً وحقول القمح والذرة صيفا ".
ويبقى بين عالمه ، هذا الذي هاجر إليه وحضن أمه الدافئ فقد بقي صوتها يقرع آذانه ..و طغى على الصوت الذي ناده اللحظة بنبرة أخرى :
" ـ جوزيف..جوزيف ..! "
فكان هذه المرة بصوت يعرفه، يحبه ..يغبطه :
"ـ يوسف ..يا امَّا تعال ..تعال..! "
ونجدها في قصتها " ككل النساء " وبلغة أكثر شاعرية تختار فنانا آخر ؛ رساما هذه المرة ، كان مسرحا لكثير من الخيبات والتجارب القاسية جعلته يعتقد أنهن على شاكلة واحدة حتى وإن كانت الحبيبة هذه المرة لوحة رسمها بأنامله ونمق منابع الحسن فيها بخياله واختار لها القوام المغري والوجه الصبوح وألبسها ذوقه وراح يراقصها ..رقصة ـ فالس ـ مثيرة .
" ـ وأخيرا جئت ..! انتظرت زمنا حضورك ..عيناك ..قوامك ..شعرك الطويل العسلي .. وهذه الشفاه القرمزية ..امرأة أنت غير كل النساء ".
ويأخذها إلى المعرض يحيطها بعناية زائدة لكنها تثبت أنها مثلهن فهاهي تغري مراهقا يحدق فيها يلمس كتفها الناعم ويرنو أكثر وهي..أنثى يغريها الثناء ويَتَيقَّن أكثر فهي ككل النساء ..
ونجدها قد خصت قصتين لبطلين من ثورتين لابد لأي كاتب أن يمرغ قلمه في عطر قداستهما إنهما أعظم ثورتين ..! ثورة نوفمبر الخالدة التي تبناها رجال من نوع آخر من بشر لم يعرف من قبلُ من طينة ـ عمار لاراف ـ الرجل البسيط الذي تثير فيه تصرفات المستعمر و ممارساته الرغبة أكثر في التحرر والإنعتاق .. وهو يرى أمه بوجهها الشاحب تترقب بين الحين والحين فاجعة جديدة .. وهذا الرعب "رأيته ينمو لحظة بلحظة على وجه أمي الشاحب ، وحلمها الصغير يتآكل تحت نعال غليظة تدوس على أصابعها الرقيقة الحافية .."
الجوع والفقر و الخوف صنعوا منه بطلا كان يوم ظَفَر به القائد يوم عيد عند العدو وكانت بداية أضواء تلوح كبلابل مضيئة غطت كل فضاء الوطن واستشهد البطل وخابوا..! " في الصباح جاؤوا فرادى وجماعات يضحكون لاغتيال الشهيد ... ومضوا حزانى غير منتصرين .." كان ذلك في قصة عنونتها بعنوان غريب يعرفه الآباء ـ لاراف ـ .
والثورة الممتدة أبدا .. صراع مرير بين غاصب لا يرحم ومتمسك بالتراب لا يستكين ..
فكان الجدار قطعة سكنت القلب ولم تغادر ..جاؤوا اعتلوا الجسد النحيف ، خرقوا كل قوانين البشر واعتدوا على الطفولة ..صلبوا عذبوا ..وقتلوا ثم بعد ذلك أمموا المنزل واتخذوا منه مرقصا إنهم بشعون يرقصون على الآلام ويتخذون عويل الثكلى موسيقى ويرقصون.. ! وثار الرجل الذي لم يسكن يوما.."وقتها فقط قام الرجل ونزع عنه معطفه الأزرق الثقيل جدا المشحون بالانتقام والمعبأ بعذابات الماضي ..ومضى حاملا معه كل أشيائه وقطعة من جدار ..
ورجل آخر وألم آخر ..يكابد ويجتهد ويجاهد لكنه أبدا يجد نفسه بل أمل منزوع الأحلام مبهم المستقبل ..كل القبلات تكسرت وكل المحاولات باءت بالفشل ..فيقرر التخلص من هذا الحصار و يقرر أن يكون ذلك اليوم بالذات الذي تصادمت فيه المتناقضات ـ" وعن يمينه مر موكب جنائزي ومن اليسار موكب احتفاليٌّ " ـ هو يوم يدفن الماضي "فقام شطف وجهه بعد أن تمعنه جيدا في المرآة وكأنه يودع تلك التفاصيل الهادئة نهائيا وربما يبحث عن وجه آخر وبتفاصيل جديدة ".
ومضى كالمجنون لكنه يدرك تماما ما يريد إنه يبغي التخلص من تلك الرتابة والعبثية التي لازمت كيانه .. ويثور وقد أدرك مكامن القوة والضعف ويجب أن يكون أول الرافضين وسيجد حتما كل النفوس الصافية تابعة ومؤيدة كان ذلك في قصة " نقطة عبور ".
وأخيرا وبلغة بسيطة أكثر وملامسة لواقعه وكانها تكتب له ولا تريد أن تتعب تفكيره تتناول في قصة " وانته الدرس" قصة الأستاذ الذي يجد نفسه لا يتمكن من إلقاء درسه إذ يكتفي بين بداية الحصة ونهايتها بمحاولة بسط الهدوء وبجهد جهيد يتمكن من كتابة عنوان الدرس ..ـ الوقت هو الحياة ـ .
تختار فاطمة لقصصها النهاية المفتوحة وكأنها تقول للقارئ ؛ لك أنت كذلك أن تكون مبدعا وأن تشارك وتختار ..لكنها دوما كانت ميالة لأن تجعل من أبطالها ينتصرون في النهاية حتى لما مات شاعر نسرين ترك ما لا يموت ؛ ديوان شعر وكانها تريد أن تختار فقط الجزء الأول من مقولتها في الإهداء : حين تعتصرنا الآلام نولد من جديد ..! لقد أخرج البحر درره كما قال عبد الحميد عمران .
عزالدين كعوش
.. و يلفظني البحر ... مجموعة قصصية للقاصة فاطمة قيدوش ، صدرت مِؤخرا عن دار ابن الشاطئ للنشر والتوزيع .. فهنيئا للقاصة صدور مجموعتها وهنيئا للقارئ الذي سيطلع على هذه الدرة ..!
جاءت المجموعة في أربع عشرة قصة تنوعت مواضيعها لكنها حافظت على أسلوب قصصي يجعلك تتنقل بينها بسلاسة ، تتلهف لقراءة القصة القادمة وأنت تنتهي في اللحظة ذاتها من القصة التي بين يديك ..
“ لم يكن شهر أيلول لتلك السنة غير ورقة - يا نصيب – رابحة دفعها موج البحر إليه ، فمرت غجرية عنيفة أمامه داست عمدا بقدميها الحافيتين لوحاته الرملية التي مافتئ يشكلها كلما انسحب الموج تاركا المكان نديا ورطبا وجاهزا للبوح ."
هكذا تقدم القاصة لقصصها الممتعة بلغة شاعرية جميلة ..ثم تأخذك إلى أعماق النفس وتخاطب الوجدان لتخرج بعدها إلى السطح وتعرض المرئي والملموس بطريقة شيقة..
جاءت القصص عميقة في معظمها تشجع القارئ على إعمال فكره وتدفعه أن يكون بدوره مبدعا وهو يهتدي للفكرة التي تريدها الكاتبة ..واختارت أبطالها من عمق المجتمع ومن طليعته أحيانا لكنها في كل مرة كانت تعرض أبطالها بطريقة خاصة جدا إنها طريقة فاطمة قيدوش ..
لما كانت بطلة القصة أنثى جعلتها تتقلب بين الآهة والأمل بين الانكسار والانتصار بين الأنثى والأنثى ..!
تلك الطفلة التي كبرت وهي تمقت أن ترى في حبيب الطفولة البريء الدافئ الراحتين صورة أبيها الذي يضرب أمها ثم يقبلها ..وتستكين وتسلم له النفس راضية وتجيب الطفلة
"- أمي لماذا يضربك ؟
- لأنه يحبني ."
وتكثر الأم الكلام ..وتكثر النسوة الكلام وينمو لديها كره شديد لمثل هذه التصرفات ولا تريده أن يصدر مثله منها كما لا تريد أن يكون حبيبها مثل أبيها .. وتسأله وتلحُّ في السؤال هل يدرك هذا الحبيب الدافئ الراحتين ما تريد أن يكون ..لكنها في الأخير تكتشفه وكأنها تكتشف كل الرجال فتجده من بعيد يشبه والدها تماما .. كما جاء في قصة " خلف حدود السؤال" .
ونجد البطلة كذلك في قصة " خارج اللحظة "ثائرة أمام رغبة الأب الذي يريد أن يجردها من أنوثتها ، فهو يريد ذكرا لكنها أتت غير مرغوب فيها فعليها أن تكون الذكر إذن فراح يتفنن في أذيتها بداية من الاسم الذي جعله من غير علامة تأنيث " إحسان " ..ولزم قص شعرها وكسوتها بألبسة ذكورية .. و .. وقد أدركت " كان عمري بضع سنين حين مارست أنوثتي ببوح نادر ، يوم عيد رقصت هنا ..كان ذلك خفية عنك " ..وها هي تقرر الخروج من هذا الصمت وتعلن التمرد وتنطلق أنثى كما شيء لها بداية من عيد الميلاد هذا .." سحبت – الطرطة – غرست فيها شمعة واحدة ..وبدأت ترتب من جديد صندوقا من ورق ..
بينما نجدها في قصة " ليلة عيد " تعطي مثالا في التضحية بالنفس من أجل عائلتها وتحرص على أن تشمل إخوتها بعطف وحنان لا يمكن أن يوفره غير أنثى زرع فيها البارئ كل منابع العطاء فأجرتها رقراقة بلا تردد ليبلغ الكل بر الأمان وهاهي اليوم في ليلة العيد هذه تنتظر عودتهم لكنهم انشغلوا بأمورهم فتسكن للذكرى وتناجي الماضي وترتقب إذ " جلست تقلب "ألبوم الصور " بحنو نادر وكأنها تلتقط أجسادا صغيرة وتحميها من السقوط .."
ونجد البطلة في " ممر البداية " طفلة تهرب من التهم ..تحاول أن تكون ككل أترابها غير أن مجيئها إلى هذا الوجود الذي كان مختلفا قليلا عن مجيء بقية الزملاء جعلها تبقى أبدا متهمة ومفجوعة .." رفضتني القرية الصغيرة المترامية الدفء والخصوبة والنماء ولم تكن سخاءً علي بقدر ما كانت تزج بي إلى دائرة الاتهام .." لكنها تكابد ..تجاهد وتنتصر ويشار لها بالبنان وهي الآن تمر بين الغرف ويصلها الهمس
- جمانة جاءت .
- جمانة ذهبت ..
وتلبس البطلة في قصتي "حيزية ذاكرة وطن" و" امرأة من زمن مضى" لباس المحارب الشجاع وتزودها بحنان الأنثى وتنطلق صوب هدف واضح المعالم بيِّن الغايات كانت "حيزية " و "امَّا اليامنة" من بين من وضّحوا خطوطه أكثر وتحقق النصر ..
لقد كان في باقي القصص البطل رجلا وكأنها مشت حسب التقسيم الشرعي وللرجل مثل حظ الأنثيين ..! ومشت معه معتركات الحياة بلغة لا تقل شاعرية عنها لما كانت البطلة أنثى ..
فكانت البداية مع الشاعر الرقيق الذي كان يبني أعشاشا للحلم وأخرى للحب ..حب "نسرين " .. والذي في لحظة ما وجد نفسه لا يقف على حقيقة بيّنة فراح يستنطق أكمام زهرة ربيع وهو يفرقها في الهواء بين خيارين :
- تحبني ..
- لا تحبني..
وتأتي الإجابة قاسية جدا ..
"خرجت نسرين وبيدها كيس ،و مرت ثانية بجانبه ..وظل هو مكانه حين مرت وحين عاودت المرور ظل يتمسح في عطرها بنهم والسعال يزيد حدة :
ـ نسرين ..!
وينتهي العاشق ويولد حرفه حين " تهالك وتهالكت في السقوط أشياؤه.. وديوان شعر ؛ ـ نسرين قصيدة لم تقرأ ـ
وتغوص فاطمة بأبطالها في صراع دائم مع حياة قلَّ ما تنصف المنصفين فبطلها الثاني يحاول الفرار بل يجبر على الفرار من أمكنة ظلت تحاصره ، تخنق فيه الابتسامة وتجهز بين ضلوعه بكل قسوة على كل حلم جميل .." لم تعد مدينتي تحبني وتطربني بنشيد حفظته رغبة في الصف الأول ولم تعد تمدني بمقاطع قدسية : ـ قسما بالنازلات الماحقات ـ يصبح الهروب ملاذه الوحيد ، لكنه يُصدم أكثر وهو المكلوم إذ ترفع في وجهه يد المنع أبد ، إشارة وقوف لا يمكنه تجاوزها ..وتوظف هنا بشــكل جميــــل قصيدة أحمد فؤاد نجم الممنوعات :
ممنوع من الغنا
ممنوع من الكلام
......
ويمنع ..ويد ترفع في وجهه من جديد
" ـ أنت ممنوع من السفر " .
جاء ذلك في قصة اختارت لها عنوانا مثيرا للانتباه " بين المرافئ والوجع " .
ومرة أخرى يجد بطلها في القصة التي وسمت بها مجموعتها ـ ويلفظني البحر ـ نفسه يُساق وقد أصبح همُّ الكل العبور إلى الضفة الأخرى وبحظ عظيم يلفظه البحر وينجوا ليكابد هناك ..ويكبو..ويكبو مرة أخرى ..ويقوم .." فعضلاته المفتولة وبنيته القوية كانتا جسور عبوره إلى بساتين البرتقال شتاءً وحقول القمح والذرة صيفا ".
ويبقى بين عالمه ، هذا الذي هاجر إليه وحضن أمه الدافئ فقد بقي صوتها يقرع آذانه ..و طغى على الصوت الذي ناده اللحظة بنبرة أخرى :
" ـ جوزيف..جوزيف ..! "
فكان هذه المرة بصوت يعرفه، يحبه ..يغبطه :
"ـ يوسف ..يا امَّا تعال ..تعال..! "
ونجدها في قصتها " ككل النساء " وبلغة أكثر شاعرية تختار فنانا آخر ؛ رساما هذه المرة ، كان مسرحا لكثير من الخيبات والتجارب القاسية جعلته يعتقد أنهن على شاكلة واحدة حتى وإن كانت الحبيبة هذه المرة لوحة رسمها بأنامله ونمق منابع الحسن فيها بخياله واختار لها القوام المغري والوجه الصبوح وألبسها ذوقه وراح يراقصها ..رقصة ـ فالس ـ مثيرة .
" ـ وأخيرا جئت ..! انتظرت زمنا حضورك ..عيناك ..قوامك ..شعرك الطويل العسلي .. وهذه الشفاه القرمزية ..امرأة أنت غير كل النساء ".
ويأخذها إلى المعرض يحيطها بعناية زائدة لكنها تثبت أنها مثلهن فهاهي تغري مراهقا يحدق فيها يلمس كتفها الناعم ويرنو أكثر وهي..أنثى يغريها الثناء ويَتَيقَّن أكثر فهي ككل النساء ..
ونجدها قد خصت قصتين لبطلين من ثورتين لابد لأي كاتب أن يمرغ قلمه في عطر قداستهما إنهما أعظم ثورتين ..! ثورة نوفمبر الخالدة التي تبناها رجال من نوع آخر من بشر لم يعرف من قبلُ من طينة ـ عمار لاراف ـ الرجل البسيط الذي تثير فيه تصرفات المستعمر و ممارساته الرغبة أكثر في التحرر والإنعتاق .. وهو يرى أمه بوجهها الشاحب تترقب بين الحين والحين فاجعة جديدة .. وهذا الرعب "رأيته ينمو لحظة بلحظة على وجه أمي الشاحب ، وحلمها الصغير يتآكل تحت نعال غليظة تدوس على أصابعها الرقيقة الحافية .."
الجوع والفقر و الخوف صنعوا منه بطلا كان يوم ظَفَر به القائد يوم عيد عند العدو وكانت بداية أضواء تلوح كبلابل مضيئة غطت كل فضاء الوطن واستشهد البطل وخابوا..! " في الصباح جاؤوا فرادى وجماعات يضحكون لاغتيال الشهيد ... ومضوا حزانى غير منتصرين .." كان ذلك في قصة عنونتها بعنوان غريب يعرفه الآباء ـ لاراف ـ .
والثورة الممتدة أبدا .. صراع مرير بين غاصب لا يرحم ومتمسك بالتراب لا يستكين ..
فكان الجدار قطعة سكنت القلب ولم تغادر ..جاؤوا اعتلوا الجسد النحيف ، خرقوا كل قوانين البشر واعتدوا على الطفولة ..صلبوا عذبوا ..وقتلوا ثم بعد ذلك أمموا المنزل واتخذوا منه مرقصا إنهم بشعون يرقصون على الآلام ويتخذون عويل الثكلى موسيقى ويرقصون.. ! وثار الرجل الذي لم يسكن يوما.."وقتها فقط قام الرجل ونزع عنه معطفه الأزرق الثقيل جدا المشحون بالانتقام والمعبأ بعذابات الماضي ..ومضى حاملا معه كل أشيائه وقطعة من جدار ..
ورجل آخر وألم آخر ..يكابد ويجتهد ويجاهد لكنه أبدا يجد نفسه بل أمل منزوع الأحلام مبهم المستقبل ..كل القبلات تكسرت وكل المحاولات باءت بالفشل ..فيقرر التخلص من هذا الحصار و يقرر أن يكون ذلك اليوم بالذات الذي تصادمت فيه المتناقضات ـ" وعن يمينه مر موكب جنائزي ومن اليسار موكب احتفاليٌّ " ـ هو يوم يدفن الماضي "فقام شطف وجهه بعد أن تمعنه جيدا في المرآة وكأنه يودع تلك التفاصيل الهادئة نهائيا وربما يبحث عن وجه آخر وبتفاصيل جديدة ".
ومضى كالمجنون لكنه يدرك تماما ما يريد إنه يبغي التخلص من تلك الرتابة والعبثية التي لازمت كيانه .. ويثور وقد أدرك مكامن القوة والضعف ويجب أن يكون أول الرافضين وسيجد حتما كل النفوس الصافية تابعة ومؤيدة كان ذلك في قصة " نقطة عبور ".
وأخيرا وبلغة بسيطة أكثر وملامسة لواقعه وكانها تكتب له ولا تريد أن تتعب تفكيره تتناول في قصة " وانته الدرس" قصة الأستاذ الذي يجد نفسه لا يتمكن من إلقاء درسه إذ يكتفي بين بداية الحصة ونهايتها بمحاولة بسط الهدوء وبجهد جهيد يتمكن من كتابة عنوان الدرس ..ـ الوقت هو الحياة ـ .
تختار فاطمة لقصصها النهاية المفتوحة وكأنها تقول للقارئ ؛ لك أنت كذلك أن تكون مبدعا وأن تشارك وتختار ..لكنها دوما كانت ميالة لأن تجعل من أبطالها ينتصرون في النهاية حتى لما مات شاعر نسرين ترك ما لا يموت ؛ ديوان شعر وكانها تريد أن تختار فقط الجزء الأول من مقولتها في الإهداء : حين تعتصرنا الآلام نولد من جديد ..! لقد أخرج البحر درره كما قال عبد الحميد عمران .
عزالدين كعوش