اللهب المقدس

مرحبا بك معنا حللت أهلا وسهلا

انضم إلى المنتدى ، فالأمر سريع وسهل

اللهب المقدس

مرحبا بك معنا حللت أهلا وسهلا

اللهب المقدس

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
اللهب المقدس

تربوي أدبي ثقافي


    عاصفة على الرصيف

    بوجدع عبد العزيز
    بوجدع عبد العزيز


    عدد المساهمات : 89
    تاريخ التسجيل : 20/12/2010

    عاصفة على الرصيف Empty عاصفة على الرصيف

    مُساهمة  بوجدع عبد العزيز الخميس سبتمبر 29, 2011 3:32 am

    عاصفة على الرصيف
    ـ منذ عام وهو يمض نهاره مكوّما في أسماله البالية على هذا الرصيف الممتدّ المكتظ بالمارّة ..يقعي مسندا ظهره المقوّس إلى الجدار غالبا ..في حين لا تكاد ترى رأسه إلاّ منحشرا بين ركبتيه كأنّ به وجعا يستفزّه فيحاول أن يضغط عليه ويحاصر وجعه بالرّكبتين .
    شغلني أمره هذا المساء أكثر ممّا كان يشغلني في الأيّام الماضية .. ذلك لأنّني ـ وأنا في طريقي العودة بعد انتهاء دروسي المسائيّة ـ رأيته ثابتا في إقعائه رغم شدّة الرّياح التي كانت تدوّي بعضفها وتحرّك حتى الأشجار الضخمة وتسقط أوراقها وأغصانها .. الكل يحثّ الخطى فرارا من نُذُر هذه العاصفة الخريفية الوشيكة..
    أمّا أنا فكنت أتراخى في مشيتي ، و ألزم مكاني أحيانا لا عجزا عن مدافعة الرياح المهتاجة وغبارها المنتفض، ولا تهوينا من مخاطرها ، ولكن لأنّ حال هذا المتسوّل العجوز تشغلني .. .
    كانت الرياح تهزّ معطفه المفتوح ..وتجمع حوله ما احتمله الشارع من أوراق جرائد وكراريس وأكياس وأعقاب سجائر وعيدان أشجار.. حتى بدا وكأنّه شيء من هذه الأشياء التي لفظها الناس ، وضاق بها الشارع ..
    كانت يداه تختبئان تحت أبطيه ..أمّا أصابع قدميه فكانت ثحاول الاختباء داخل حذاء ممزّق من الأمام ..
    شيء وحيد فيه كان يقاوم برد هذه العاصفة العنيفة هو أصابع قدميه هذه التي كانت تنكمش وتنبسط في حركة خفيفة رتيبة .. .
    ازدادت قدماي تثاقلا وأنا أمرّ من أمامه.. اقتربت منه وعرضث عليه خدمتي ..لم يحرّك عرضي شيئا فيه ..فهمت من موقفه منّي أنّ قمّة اليأس هي أن يستوي عند الإنسان ما يضرّ وما ينفع ..وقد بلغ العجوز هذه القمّة .. شعرت حينها بسخونة في المقلتين تنذران بعافة من الدموع ، نما أحسست بنوبة من التّيه تلفّني .. حتّى أنّي لم أعد أشعر بالخوف من العاضفة التي اشتدّ هجوم رياحها وزخّات أمطارها الأولى ، وما عدت أحرص على الإسراع نحو المنزل للاحتماء من غضبة الطبيعة والاستتار من وجهها المتجهّم .
    كنت أتساءل بيني وبين نفسي : أغضبت الطبيعة من هؤلاء الناس الذين يتدافعون على وجه هذه الحياة ، كما تتدافع أمم الغاب ، فينهب قويهم ضعيفهم .. ؟ .
    ولكنّ هذه الطبيعة تفعل الفعل نفسه بهذا العجوز البريء .. ها هي تخصّ بضربتها الأولى هذا المسكين ، وتضاعف من بؤسه .. إنّها تلطمه برياحها الهوجاء من كلّ الجهات .. ها هي تفتكّ منه قطعة الخبز التي لفّها في كيس بلاستيكي ، وتقذف بها بعيدا .. ولا تنفكّ تبعدها.. .
    في غمرة هذا المشهد الذي اجتمع فيه عنف الطبيعة وسخطها بضعف العجوز المتسوّل وحرمانه ، امتطيت جناح الذاكرة ، ورحلت إلى البعيد لأنجو من أحاسيسي المهتاجة الني توشك أن تفعل بي ما فعلت العاضفة بالعجوز .. تذكّرت ـ وأنا أثير رحلتي المعاكسة للزّمن جغرافية البلاد الإسلامية التي حماها الحكّام الأوائل من عواضف الظّلم والأنانية وجشع الآستحواذ .. تذكّرت قول ذلك الخليفة الأمويّ الراشد (عمر بن عبد العزيز) لعمّاله : ( انثروا الحَبّ على قمم الجبال لتشبع الطّير .. فلا يُقال بعدها : ماتت الطّير في بلاد المسلمين ) ! .
    أحسست للتوّ بصوت انفجار في داخلي .. تحسّست ما حولي فأدركت أنّ الصّوت نتج ارتطامي بأرض الواقع الصّلبة بعدما ألقت جاذبية الأرض من سماء التّذكار ..
    تأرّقت طويلا في ليلتي تلك .. وحينما أفقت بين أحمال من التّعب والإرهاق عاودني مشهد العجوز وسط صخب الطّبيع ووعيدها .. كان الصّباح باردا كبرودة تلك التحيات التي راح بعض المارّة يتبادلونها أو يستعيضون عنها بهزهزة الرّؤوس أحيانا .. من بعيد بدا لي حشد من الناس تشرئبّ أعناقهم باتجاه مكان العجوز المعتاد .. حثثت الخطى نحو الحشد .. كان رجال الشرطة مصحوبين ببعض رجال الحماية المدنيّة يأمرون المارّة بمتابعة مسيرهم والابتعاد عن المكان ، في الوقت الذي كانت سيارة الإسعاف المضاءة متوقّفة إلى جنب الرضيف منفرجة الأبواب ،، وهي تستعدّ لاحتضان جثّة العجوز بعد رحلة طويلة من العمر قضاها العجوز الرّاحل باحثا باب يدخله إلى هذه الحياة وتنكشف له من خلاله أنوارها .. !
    .

      الوقت/التاريخ الآن هو الجمعة أبريل 26, 2024 2:53 am